ما هذه (الحالة) من التثاقل والخمول والفتور التي تصيبنا أحياناً ، وترافقنا في أحيان أخرى ، ونطلق عليها اسم (الكسل)؟ وما لها تجعلنا نُحْجِمُ عن القيام بما يجب علينا القيام به ؟ أو تجعلنا نقوم بالعمل المطلوب ببطء ممزوجٍ بالضيق وانطفاء الحماس ؟ ما كُنْهُ هذا الشيء المدعو كسلاً ؟ وما لَهُ يبعث فينا دائماً التقاعس وفقدان الرغبة بالعمل وإيثار الراحة ، حتى يصل بنا أحياناً الى حدِّ العجز والإمعان في السلبية ؟ فكأنه كتلة ثقيلة تربِضُ فوق صدورنا فتُلصِقُنا بالأرض ، حين تدعونا مقتضيات الحياة الى بذل الجهد اللازم أو أداء العمل الواجب؟ وهل تُراهُ (أُعني هذا الكسل) أقرب الى طبيعة الإنسان من النشاط والفاعلية ؟ فإن كان النشاط هو الأقرب لطبائع الأفراد ، فلِمَ تُضطَرُ مؤسسات العمل لبذل كل تلك الحوافز الإيجابية والسلبية لضمان إنتاج موظفيها وحسن أدائهم ؟ وإذا كان النشاط أقرب الى طبائع نفوسنا من الكسل ، فما بالُنا نفرّط أحياناً بواجباتنا والتزاماتنا حتى السهل البسيط منها ، من قبيل الخمول والتقاعس ، رغم علمنا بالعواقب ؟ مهما كانت إجابات ما تقدم من أسئلة ، يبدو أن الكسل حالة شديدة التأثير في حياة الناس ، لِما تسببه من عزوف عن العمل ، وتدنٍ في الإنتاج ، وقلة في الإنجاز ، وتفريط في أداء الواجب نحو الذات والآخر ، ورغم حجم تأثير الكسل هذا في حياتنا نجد أن البحث في أمره قليل ، ودراسته والحديث في شأنه والكتابة في مجاله نادر ، فكأنما هو حقيقة سلبية تتغلغل في حياتنا ولحظاتنا إلى درجة تجعلنا نكسل حتى عن التفكير في الكسل ! وفي كل الأحوال ، أعتقد أن للكسل أنواعاً ثلاثة : كسلٌ نفسي ، وكسلٌ ذهني ، وكسلٌ جسدي : الكسل الذهني أعني بالكسل الذهني تدني الرغبة بالتفكير ، والتثاقل عن البحث والتحليل ، مما يؤدي إلى قبول الأفكار الجاهزة ، والاقتناع بالتفسيرات والتصورات المتوارثة ، والبحث عـن الحلول التقليدية ، دونما محاكمة أو نقد ، بل يؤدي إلى رفض الفكرة الجديدة قبل إمعان النظر فيها لمجرد مناقضتها للمألوف المستقر ، لأن التمعّن والتفكّر يستهلكان جهداً وطاقة . وربما كان هذا النمط من الكسل من الأسباب الرئيسة التي جعلت السواد الأعظم من البشرية عبر تاريخها الطويل تتوارث الأفكار ، وتقبل الخرافة ، وتقتبس الحلول الجاهزة ولو كانت خاطئة، حيث أن المبدعين من مفكرين وفلاسفة وباحثين ومخترعين ومكتشفين هم الندرة دائماً والاستثناء غالباً . وربما كان هذا الكسل الذهني أيضاً من الأسباب التي تجعل الإنسان لا يستخدم إلا جزءاً يسيراً من إمكانات الدماغ وقدراته وفقاً لما يؤكده لنا العلماء باستمرار . الكسل النفسي يتمثل الكسل النفسي في فقدان الرغبة في القيام بعمل ، وفتور الهمة ، وتدني نسبة الحماس ، والميل الداخلي إلى السلبية والخمول في مواجهة متطلبات الحياة وضرورات العيش ومقتضيات التكيّف ، وقد يرتبط هذا النوع من الكسل بجوانب كثيرة ، فهو مثلاً من أعراض مرض الكآبة في بعض صوره أو أشكاله أو مراحله ، وهو كذلك من أعراض تعدد الضغوط النفسية والتوتر الداخلي ، وفي أحيان أخرى من أعراض القيام بأعمال لا نُحبُّ أداءها أو لم نعتَدْ على أن نقوم بها . وقد يكون الكسل النفسي كذلك احتجاجاً من المرء على ما يسود حياته من فوضى وتراكم وتشتت ، بل وأذكر أني قرأت في بعض المراجع أن كسل الموظف في أداء عمله نمط من العدوان اللاشعوري الموجه نحو السلطة التي تقمعه ! وأعتقد أن الكسل النفسي يرتبط بعلاقة تبادلية مع السأم ، فكل منهما يقود بشكل ما إلى الآخر ، أي أن كلاً من الكسل والسأم يمكن أن يكون سبباً للآخر أو نتيجة له ، فالسأم كما عرّفَهَ الروائي (البرتو مورافيا) هو (فقدان العلاقة بالأشياء) ، ولا شك أن من يعيش هذا الشعور من انقطاع الصلة النفسية الداخلية بأشياء الحياة وموضوعاتها وأحيائها سيكون فاتراً ، لا يُقبِلُ على شيء ، ولا يألو على شيء ، إلا إن كان اقباله متثاقلاً خاملاً . وكذلك الحال فإن الكسل ذاته بما فيه من سلبية وسكون وخمود وعزوف عن الفعل الإيجابي والعمل ، يؤدي لفقدان العلاقة واقعياً بالأشياء ، مما يبعث على السأم كحالة نفسية . الكسل الجسدي أقصد بالكسل الجسدي ذلك الكسل الناجم عن أسباب فسيولوجية ، فبعض الأمراض ، كما تُحدِّثنا الكتب الصحية والطبية المبسطة ، تسبب الشعور بالإرهاق ، وذلك كفقر الدم والسكر وتدني نشاط الغدة الدرقية وأمراض القلب والجهاز التنفسي وغيرها ، ومن يعاني الإرهاق سيحُجم لا محالة عن كثير من النشاطات ، وسوف يَتَحسَّبُ لكل سعرة حرارية سيبذلها من طاقته ، وهذا يعني الكسل من حيث النتيجة ، لكنه ربما يكون كسلاً مبرراً أو مفسراً على الأقل ، فالإرهاق ليس مجرد تعب ، إذ التعب حالة طبيعية تنجم عن بذل مقدار من الجهد يزيد عن حد معين ، ويزول التعب بعد الراحة ، أما الإرهاق فقد يأتي بدون جهد أو لأقل جهد ، ولا يزول بعد الراحة ، ويمتد لفترات طويلة . ولا ينجم الإرهاق عن الأمراض وحسب ، فقد ينجم عن قلة النوم أو تقطّعه أو عدم عمقه ، وكذلك ينجم عن بعض الأدوية كما في المهدئات وبعض أدوية الضغط وبعض أدوية الحساسية وما إلى ذلك . أثر الجينات والمناخ والثقافة ...! يبدو أن ثمة أُناساً يرثون طاقة نفسية وعصبية أكبر مـن التي يرثها سواهم ، ويستطيعون تحمل بذل الجهد المتواصل لأوقات أطول ، وهم أبعد عن الكسل عادة . كما أن للمناخ فعله وأثره ، فالطقس الحار يبعث على الكسل بكل أشكاله ، أفلا ترى إلى سكان الدول الباردة والمعتدلة أنهم الأكثر إنتاجية عادة ؟ وأن معظم الدول الغنية مرتفعة الدخل وذات التنمية البشريـة العالية مناخهاً غالباً بارد أو معتدل ، وجميع الدول ذات التنمية البشرية المتدنية مناخها حار ؟ وربما أمكننا أن نضيف إلى هذا وذلك أن لطبيعة الثقافة بما فيها القيم والعادات السائدة في المجتمع ، تأثير في تقليل الكسل أو زيادته ، فالمجتمعات التي تميل إلى كثرة اللقاءات والمناسبات والجلسات المطولة والصالونات ، يكون أفرادها أقرب عادة إلى الكسل من أفراد المجتمعات التي تقدّر الوقت والإنتاج وتُحفِّز الإنجاز . وبعد خلاصة القول أن الكسل بكل أشكاله ، ومهما تعددت أسبابه وأعراضه ، وتفاوتت تأثيراته من شخص لآخر ، حقيقة قائمة في نفوسنا ، متغلغلة في حياتنا ، لها فعلها السلبي في حجم أعمالنا ونوعها ، وفي إنجازاتنا وأداء التزاماتنا وتحقيق أهدافنا ، وينبغي التعامل معه (أي الكسل) كحقيقة واقعة تحتاج إلى فهم ، وتستلزم مقاومتها الإرادة والتحفيز . وربما يساعدنا في ذلك تحديد الأهداف والوسائل ومتابعة تحقيقها ، والبحث الدائم عن المشاعر التي تبعث فينا الرغبة في الحياة والاستمرار والإيجابية والعطاء ، مثل مشاعر الحب والانتماء للإنسانية وتحقيق الذات.
|